المتنبي وسيف الدولة.. قصة محبة وفراق

لا أستطيع تخيّل قدرة إنسان قد فقد اتزانه إثر ضيقٍ ما، ثم استطاع في لحظةٍ حاسمة أن يترجل ويلفظ غضبه وحزنه ويحولهما إلى قصيدةٍ عصماء تُطربُ أمةً كاملة..

المتنبي كان على مستوى الحدث في اليوم الذي قرر فيه بأن يفارق خليله ونديمه سيف الدولة أمام حشود الواشين من حوله، القصيدة التي بدأت بعتابٍ رقيق لسيف الدولة، وإظهار الحب العظيم الذي يكتمه المتنبي، ذلك الحب النقي الذي يسمو أمام تملق ونفاق حاشية الأمير..

وقد أظهر المتنبي من البداية بأن القصيدة عتابٌ محض، وأن العتاب سيحمل رونقاً تقليدياً باستحضار الذكرى وتخليد مناقب الحبيب، ثم سرعان ما كشف المتنبي عن بيت القصيد الحقيقي ومغزى أبياته، بإظهار عظمته وتبجيل ذاته، ووضع كل من دونه وتحقيرهم حتى طال بالأمر وعرّض بسيف الدولة، فغضب منه الأمير ورماه بالمحبرة على رأسه حتى سال دمه، فعاد المتنبي يستجدي ويسترسل بالعتاب حتى اكتملت أركان القصيدة.

المتنبي في هذه القصيدة، تذبذبت كلماته بين الحب والزهد فيمن يحب، بين الشوق المؤكد والإكراه على الرحيل، بين السخط والتحقير، وبين الغضب والاعتلاء بالنفس.. وأمام فوضى المشاعر التي عاشها الشاعر حينها، والضغط المهول، اتضح أنه كشف جميع أوراقه، ومن كان ليفعل ذا لولا تجرعه لخيبةٍ عصية على الاحتمال، ومن خاب في نهاية الدرب خسر..

هُزم المتنبي في كل شيء آخراً، وتبددت جميع أحلامه، إلى أن قال:

"وأنّى شئتِ يا طرقي فكوني.. أذاةً أو نجاةً أو هلاكا".

هذه القصيدة لا تغيب عن وجداني لحظة واحدة، لن اسأل نفسي كيف لإنسان أن يروِّض لسانه ويكتب عتاب يُدمي القلوب والعيون والأنفس والأعلام، لكن السؤال الذي يستحق، أنَّى لإنسان أن يسمع مثل هذا العتاب ولا يلين قلبه، ويترقق فؤاده، وتستكين نفسه ؟

أنَّى لإنسان أن يسمع:
"يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارقهم،
وِجْدانُنا كل شيءٍ بعْدَكُم عَدَمُ"!
ولا يفقد غضبه، وتخر عزيمته، وتضعف رغبته، ويهيم في أودية سريرته ؟

ااااااهٍ من هذا العتاب.. كيف يجعل نفسي تغتلي بالأسى والحزن والخزي كأنه موَّجه إلي، مُصوَّب نحوي كَقنا أبي الهيجاء تتخير مواضع الحزن من نفسي وتنتقي.

وأكثر ماتضيق له نفسي ويتعدي الإحساس المجرد إلي جوارحي حينما قال يختتم حديثه:

"هذا عتابُكَ إلّا أنَّهُ مِقَةٌ،
قد ضُمِّنَ الدُرَّ إلّا أنَّهُ كَلِمُ".

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال