القاهرة اسماً ومسمى.. عاصمة جهنم

أنا سكنت في أكثر المناطق دوشة في الهرم والعمرانية، وأكثر المناطق رقياً وهدوءاً في المعادي. فالموضوع مش مختلف خالص في الجاي.

أنا سافرت عدداً من المحافظات وقعدت فترة: طنطا، كفر الشيخ، الشرقية، المحلة. لاحظت شيئاً ملفتاً في سكان المحافظات، يمكن هم نفسهم مش ملاحظينه. الناس هناك هادية، بتمشي بالراحة، بتبص حواليها، بتلاحظ التفاصيل، بيكلموك في الشارع وهم شايفينك وباصين في عينك، بيسمعوا اللي قدامهم. لو الفيو قدام باب بيتهم اتغير، هيلاحظوه في ساعتها مش لما حد يقولهم.

لما كنت مع زميل عمل، مستني صديقه، أول حاجة قالها له لما وصل: "شايف القمر شكله عامل إزاي؟ برتقاني أوي". ده واحد عنده 30 سنة ملاحظ القمر بكل اللي وراه من مشاغل، وفعله عادي مفيهوش حاجة تتقال لو انت عايش عيشة طبيعية. لكن لو عايش في مدينة منعدم فيها فعل ملاحظة الجمال، الملاحظة أصلاً! ولو القمر اتشرخ نصين، 10 بني آدمين بس هياخدوا بالهم والباقيين هيعرفوا من شاشة التليفون. فهنا ده فعل مش عادي.

أول ما رجعت القاهرة وطلبت أوبر، أول حاجة لاحظتها إن السواق موتّرني جداً، ماسك الدركسيون بإيد وإيده التانية عمالة تتحرك رايح جاي. ثانية على الفيتيس، ثانية بيهرش في شعره، ثانية بيقرقض في ضوافرة، ثانية يوطي الكاسيت، ثانية يعليه، ثانية يبص لي، ثانية يبص الناحية التانية. حركة أكل شفايفه مستمرة، رأسه عمالة يمين شمال. حركة، حركة، حركة، مفيش لحظة واحدة سكن فيها، طول مشوار مدته ساعة!

لما نزلت من التاكسي وبصيت حوالي، ملاقيتش إنه مختلف. الناس كلها في حركة مستمرة، مش فارق قاعدين، واقفين، ماشيين، أجزاء جسمهم في حركة دائمة وعيونهم بتلف في كل الاتجاهات في كل الأوقات على كل الحاجات، وهي مش شايفه حاجة أصلاً.

في Cairo، لما بسأل حد على (أقرب سوبر ماركت فين) بيجاوبني بسرعة قبل ما أخلص جملتي: (قدام على اليمين)، وهو مش باصص لي أصلاً. في (المحلة)، سألت شاب على عنوان، بص لي، اتحرك معايا خطوتين عشان نكشف الشارع، اتكلم بهدوء، شاور لي همشي إزاي، بص لصاحبه يتأكد إن اللي بيقوله صح، هز له رأسه، بص لي، ابتسم، سألني: "تمام؟" قلت له: "تمام"، مشيت!

ده حد عنده وقت يتكلم مع حد في الشارع، عنده وقت يبص لك ويكلمك.

عارفين فيلم "In Time" العظيم؟ الأغنياء اللي يملكوا وقتهم وحياتهم ومعاهم وقت يعيشهم مئات السنين، كان بيميزهم بطء الحركة، الهدوء في الفعل، النظر للسماء، تبادل الحديث الهادئ، الابتسام. وكانوا بيعرفوا الفقراء اللي معندهمش وقت (فاضل له سنة، سنتين ووقته يخلص)، من سرعتهم وحركتهم المستمرة، بياكلوا بسرعة، بيتكلموا بسرعة، مبيبصوش للسما، معندهمش وقت يبتسموا، يا ضحك أوفر يا مفيش!

ده من ناحية تانية خالص بيوصل معايا لمفهوم كلنا بنسأل عنه: "ليه الفلوس مبتقعدش في القاهرة وبتقعد في أي مكان تاني؟ ليه الـ 200 جنيه اللي بتخلص في ساعة في القاهرة، بتكفيك يومين في المحافظات، والحاجة تمنها هي هي.. السجاير والجبنة وكيس الشيبسي وقزازة البيبسي.. كله هو هو".

عشان احنا في القاهرة بنلف في تروس يومياً بشكل مستمر عشان الشغل وأكل العيش، مفيش حياة عشان نشتغل. لذلك الميكانزم النفسي اللي بيسود: (أنا بعمل كل اللي بعمله ده ليه؟ عشان الفلوس؟ يبقى أصرف فلوس، أصرف فلوس، أصرف فلوس). وده بنشوفه في اكتئاب البنات اللي بيتحول لشوبينج، فدي ظاهرة معروفة.

لذلك إحنا هنا شعب كامل مكتئب، بينزل يعوض اكتئابه اللي جاي عشان (الفلوس) باستهلاك الفلوس دي.

عامة أنا جاي من سفر أسبوع المحلة، مش فرنسا يعني. فتلت تربع اللي فات ده كان هيبقى عادي لو احنا عايشين في مكان طبيعي.. أو... لو احنا عايشين أساساً.

إنما احنا للأسف في "القاهرة"! اسماً ومسمى.




القاهرة مدينة مقيتة ميتة تسلبك الحياة فيها المروءة، فتجعلك تزاحم النساء والعجزة صباح كل يوم على الميكروباص، وإلا تأخرت عن عملك. وتجبرك على أن ترى عشرات الأيادي الممدودة طلبًا للعون دون أن تعيرها اهتمامًا أو تتألم لأجلها، وإلا لما كفاهم وكفاك راتبك. وتجعلك تسعى حثيثًا خلف المادة، متخليًا عن الكثير والكثير من إنسانيتك، فتعمل الساعات تلو الساعات هربًا من الخوف الذي يطاردك... الخوف من الغد في مدينة لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية.




أنا سافرت تقريباً إلى أغلب محافظات مصر، مفيش مكان شوفته زي القاهرة. في بخاخات ضغط نفسي وعصبي بتترش في الجو، مكان رتمه سريع بشكل مبالغ فيه.

مفيش عربية ممكن تستنى حد مثلاً لمدة أكثر من ثانية. حياة كاملة بتضيع في الزحمة، جو مش معتدل صيفاً ولا نيلة. الأكل كله اكستريمز، لازم تكون الحاجة متمرغة في نوتيلا أو شيدر صوص، لازم تاكل بيت دورين من البرجر المحشو صوصات لا تُحصى.

كل واحد ماشي في الشارع متعصب وبيجري من حاجة أو ورا حاجة، اليوم تحسه ١٠ ساعات بس مفيهوش وقت لحاجة.

محافظة سعرانة.. القاهرة فعلاً.




قالوا:

"للبقاع تأثير على الطباع، فكلما كانت البقعة من الأرض ندية مزهرة أثرت على طبع ساكنيها بالرقة".

ابن خلدون.




قالوا ايضاً:
أَرْبَعَةٌ تُفْرِحُ:
النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ، وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي، وَالْمَحْبُوبِ، وَالثِّمَارِ.





إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال