دنشواي

حادثة دنشواي كانت عام 1906، والهلباوي لم يرحمه التاريخ حتى اليوم، رغم قتاله وقتال أصدقائه الذين انبروا وسخروا كل أدواتهم للدفاع عنه، لكنهم فشلوا في إقناع الناس ببراءته.

أراها تتكرر مع بعض أكابر محامي العصر الحديث في موقعة (الفرختين)، وشتان شتان بين موقعة (دنشواي) وموقعة (الفرختين)، إلا أن ضحايا التاريخ متشابهون. دنشواي جديدة وهلباوي جديد.

فما قصة دنشواي؟

حادثة دنشواي هو اسم لواقعةٍ جرت في الثالث عشر من يونيو عام 1906 في قرية دنشواي المصرية التابعة لمحافظة المنوفية غرب الدلتا، حيث تطور الأمر بين خمسة ضباط إنجليز وفلاحين مصريين إلى مقتل عدد من المصريين بالنار بينهم امرأة، ووفاة ضابطٍ بضربة شمس. الأهم في القضية -وهو ما خلدها تاريخياً- رد الفعل الغاشم للسلطة الإنجليزية التي كان مضى ربع قرنٍ على احتلالها مصر وعلى رأسها اللورد كرومر والطريقة المتعجرفة الشنيعة في تنفيذ الأحكام.

وكان لتلك القضية صدى كبير، وقد دفع الثمن فيها إبراهيم باشا الهلباوي، أول نقيب للمحامين المصريين، رغم انتخابه بعد واقعة القضية بست سنوات. واليوم سنقرأ دفاع نقيب المحامين الهلباوي عن نفسه وهو يحكي لنا تفاصيل تلك القضية من واقع مذكراته الشخصية.

والحديث لنقيب المحامين إبراهيم الهلباوي:

القضية -قضية دنشواي- التي يعلم الله أنني ما كنت وحدي لأستحق هذه الشهرة السيئة التي خلفتها علي هذه القضية، بل هناك كثيرون أولى وأحق بهذا الصيت المشين.

وقعت هذه الحادثة بناحية دنشواي في يوم الأربعاء ١٣ يونيو ١٩٠٦. وقد كنت في هذا اليوم مسافراً من مصر إلى عزبتي بناحية سيدي غازي (بمديرية البحيرة) قبل أن تقع الحادثة بعدة ساعات، وبقيت هناك بقية هذا اليوم ويومي الخميس والجمعة التاليين.

وكان السبب في هذا السفر نزاع قام بيني وبين أحمد خيري باشا الذي كان مديراً لديوان الأوقاف العمومية، يرجع سببه إلى وجود تل قديم في وسط أرضه صرحت له مصلحة الأملاك بشرائه ليستعمله في تسبيخ أرضه.


وقد نصحني أخي القائم بشؤون أطياني - بالمطالبة بذلك التل لنفسي - لأنه من المنافع العامة التي لنا حق أخذ الأتربة منها. فشكوت من الترخيص الذي أصدرته مصلحة الأملاك، فرد خيري باشا على ذلك بأن في أرضي تلالاً أخرى، وأنني لست في حاجة إلى التل الموجود في وسط أرضه. وعلمت أن مندوب مصلحة الأملاك سيحضر يوم الخميس أو الجمعة للنظر في هذا الموضوع.

وفي الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة ١٥ يونيو حضر المستر أنتوني، مدير مصلحة الأملاك الأميرية، ومعه المرحوم محمد بك أباظة، المفتش بها إذ ذاك، إلى منزلي قبل معاينة التلول.

وفي أثناء الحديث، روى لي مستر أنتوني حادثة دنشواي التي وقعت يوم الأربعاء، ولم يكن وصلني نبأها لأنها نشرت يوم الخميس، وجرائد الخميس لا تصل إلا الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي. فأسفت أشد الأسف، ثم ذهبنا إلى معاينة تلول الأتربة، فأخبرني أنه لا محل لشكواي بشأن تل خيري باشا وأُبيح له شراؤه، وهذا يدل على أن الحكومة لم يكن لديها فكرة عن مجاملتي أو التودد إليّ.

وفي صباح السبت، ركبت القطار الذاهب إلى طنطا، وقد عزمت على أن أمر بدنشواي لأقدم نفسي متطوعاً للدفاع عن المتهمين في الحادثة.

ولما وصلت طنطا حوالي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم المذكور، سألت المرحوم طلعت بك، ناظر المحطة وقتئذ، عن الجهة الجاري بها التحقيق وعن أقرب محطة إليها. فعلمت أن المحطة هي بتانون ومنها يذهب إلى دنشواي، وأنه غير مضمون وجود عربة للذهاب بها إلى محل التحقيق. وقد أطلعني حضرته على درجة حرارة الجو في ذلك اليوم، فإذا بها فوق درجة ٤١.


وقد نصحني بأن لا أتم السفر في ذلك الجو الشديد القيظ، خصوصاً وأن المسافة بين محطة البتانون ودنشواي نحو أحد عشر كيلومتراً، وأنه لربما لا يكون هناك في ذلك اليوم تحقيق، فأخذت بنصيحته وتابعت سفري إلى القاهرة.

وعند وصولي إلى منزلي، وجدت رسولاً من قبل صاحب العطوفة مصطفى فهمي باشا ناظر النظار وقتئذ، يدعوني إلى الداخلية، ترغب في انتدابي لأن أكون قائماً بوظيفة النائب العمومي في التهمة التي سترفع أمام المحكمة المخصوصة للمرافعة مع الحكومة ضد المتهمين من أهالي دنشواي. اختارتني لأنني أكبر المحامين الموجودين سناً وأقدمية. وتذكرت في ذلك الوقت أن المحكمة المخصوصة التي قدم إليها المتهمون في هذه الحادثة كان قد جرى على أن يمثل اتهامها شيخ من شيوخ المحامين. فعند أول تطبيق لقانون المحكمة المخصوصة في حادثة قليوب، اختير لتمثيل الاتهام فيها المرحوم أحمد الحسيني بك، وكان ذاك أكبر المحامين الموجودين سناً ومقاماً. لذلك لم أجد مسوغاً يسمح لي برفض القيام بهذه المهمة.

وقد طلبت تحديد أتعابي، فقدرت كما طلبت بثلاثمائة جنيه، وقد اشترطت أن تكون مهمتي قاصرة على الدفاع أمام المحكمة دون أن أشترك في أعمال التحقيق. وبعد حديث بين المستر ميتشل مستشار وزارة الداخلية وعطوفة وزير الداخلية ورئيس النظار، قبل طلبي في أن لا أتدخل في التحقيق.

وقد كان التحقيق جارياً في المنوفية بمعرفة حضرة النائب العمومي محمد باشا إبراهيم وسعادة محمد باشا شكري مدير المنوفية. بمقتضى قانون تشكيل هذه المحكمة، يُحرر تقريراً من واقع التحقيقات بإحالة من يريد إحالته إلى هذه المحكمة وبيان العقوبات التي يرغب توقيعها عليهم. جاء ملف القضية إلى مانسفيلد باشا، وراجع مع مستر موجرلي مفتش الداخلية أوراق التحقيق دون تدخل مني. وكتب تقرير الاتهام بإحالة واحد وخمسين متهماً إلى المحكمة المخصوصة طالباً معاقبتهم جميعاً بالإعدام.

جاءتني الأوراق بعد ذلك وهي محالة إلى المحكمة بهذه الكيفية. والمعلوم والجاري عليه العمل في محاكم الجنايات العادية أن النائب المترافع يكون اختصاص ممثل النيابة العمومية أمام المحكمة المخصوصة التي تشبه محكمة عسكرية استئنافية أقل سعة من اختصاص النائب العمومي المترافع أمام محكمة الجنايات العادية.

قانون المحكمة المخصوصة يجعل للقاضي الذي يحكم فيها السلطة بأن يحكم بأشد عقوبة على أي فعل من الأفعال المسندة إلى المتهمين ما دام قانون العقوبات يجعله من الأفعال المعاقب عليها، ولو كانت عقوبته أخف عقوبات الجنح والجنايات. فإذا كان اختصاص قضاة هذه المحكمة واسعاً إلى هذا، وإذا كان الممثل لقاضي الإحالة حكمدار بوليس القاهرة طلب عقوبة الإعدام على جميع المحالين إلى المحكمة.


وقد كانوا واحداً وخمسين متهماً، فماذا يصنع القائم بوظيفة النائب العمومي وما هي الحيلة أو القوة التي تخوله الخروج من هذا الحد المرسوم له؟

بالرغم من هذا، لما قرأت أوراق الدعوى، تبينت أنه من الشطط الفاضح ألا يميز بين المتهمين وبعضهم في المسؤولية. وطلبت من المتصلين بي من رجال الحكومة أن أخرج نحو خمسة عشر متهماً من طلب عقوبة الإعدام بطلب صريح في الجلسة ولا أوافق تقرير الاتهام بالنسبة لعشرة منهم. وبعد أخذ ورد بيني وبينهم تمكنت من إقناعهم فقبلوا طلبي.

عقدت الجلسة التي نظرت فيها هذه القضية في صيوان كبير يسع نحو ثلاثة آلاف شخص، ودُعي إلى شهود المحاكمة الأعيان والعميد من مديرية المنوفية والمديريات التي حولها. وانتخب سكرتير الجلسة عثمان باشا مرتضى، ورئيساً للمحكمة المرحوم بطرس باشا غالي، وقاضياً آخر وطنياً خلاف الرئيس وهو المرحوم فتحي باشا زغلول، وقاضياً إنجليزياً وهو مستر بوند وكيل محكمة الاستئناف، ونائب المستشار القضائي بوزارة الحقانية، وضابط من الجيش الإنجليزي حضر نيابة عن السلطة العسكرية ونيابة عن الجيش.

وفي هذه المحكمة التي انعقدت وفي هذا الجمع، ارتفعت بما أملاه علي الواجب دون أن أتجاوز بكلمة واحدة. بل ربما أستطيع أن أعترف هنا بأن شعوري بوطنيتي وصل بي إلى حد لا يتفق مع واجبي، وذلك أني دعوت إلى غرفتي بشبين الكوم قبل يوم المرافعة حضرات الأساتذة المحامين عن المتهمين وهم الأساتذة: أحمد بك لطفي السيد، ومحمد بك يوسف، وإسماعيل بك عاصم، وأطلعتهم على كل النقاط التي سأستند عليها في دفاعي ضد المتهمين لكي لا يفاجأوا في الجلسة.

ترافعت فوق الثلاث ساعات ولم أرَ من ذلك الجمع الغفير أي اشمئزاز مما قلته. بل عندما أمرت المحكمة برفع الجلسة عقب مرافعتي للاستراحة، قابلني تقريباً كل الحاضرين بالتحية والتهنئة على ما أبديته من دفاع المتهمين في القضية المذكورة.

ترافعت ثلاث ساعات دون انقطاع، ومن بين النقاط التي أوضحتها في الجلسة الرد على أفكار قيلت لي أثناء دراسة القضية من بعض الإنجليز، وهي أن تأخير ضابط نقطة الشهداء عن مقابلة الأورطة يوم وصولها إلى دنشواي كالعادة السنوية قد يدعو إلى الظن بأن هذا التغييب كان مقصوداً.

أما دفاع الأساتذة وكلاء المتهمين فلم يستغرق في مجموعه أكثر من ساعة وربع. وبعد النطق بالحكم، ذلك الحكم القاسي وهو إعدام أربعة شنقاً وجلد ستة أمام منازلهم، علا الناس رهبة وفزعاً وقد أكون أشد الناس تأثراً من هول تلك الساعة.

وفي غرفة المداولة والثلاثة قضاة الإنجليز موجودون، كان على وجوههم جميعاً التأثر. سألني رئيس المحكمة بطرس باشا غالي ما هو رأيي في الحكم، فقلت: "إن مثلي أمام هذا الحكم كمثل أم جاءها الأطباء ينظرون في أمر ولدها الوحيد لعلهم يجدون له دواء، ولما قرروا أنه من الضروري لإنقاذ حياته بتر الفخذ، خضعت الوالدة وسلمت أمرها لله. فلما قاموا بإجراءها وأتموها خرجوا قائلين لوالدته نجحت العملية ببتر الفخذ، فلم يسع الأم المسكينة أمام هذا الخبر إلا أن تولول حزينة على ما أصاب ابنها، فشأني أمام ذلك الحكم كشأن تلك الوالدة."

لقد جاءت قضية دنشواي والهلباوي يمثل المصلحة الإنجليزية ويطلب إعدام عشرة، والمحكمة تحكم بإعدام أربعة. إذن يكون باب القذف والطعن على الهلباوي مفتوحاً على مصراعيه، وهكذا فتحت هذه المعركة في الجرائد بالخيانة الكبرى. أمسى الهلباوي معروفاً بعنوان لطيف وهبه له الشيخ جاويش، وهو "جلاد دنشواي".

جلاد دنشواي

أما القضاة المصريون الذين حكموا بالإجماع بالإعدام شنقاً والتعذيب بالسياط وأولهم بطرس غالي وفتحي زغلول، فلم يُنعتوا بتلك النعوت التي تراكمت على رأس الهلباوي، حتى حينما أعلنت الحكومة أن الحكم صدر بإجماع الآراء، أي أن كل قضاة المحكمة شركاء في الحكم ومنهم فتحي باشا زغلول.

واستغفار الهلباوي لسنوات طويلة لم يمحُ من ذاكرة التاريخ فعله المشين بدفاعه عن الإنجليز ضد المصريين. ورب سقطه تتعلق في رقبة صاحبها باقي حياته. وإسقاط هذه القصة على بعض كبار المحامين من الشخصيات العامة الذين انبروا للدفاع عن قاضٍ أهان زميلاً محامياً أمام منصة القضاء في واقعة اشتهرت بموقعة الدجاجتين قد يطيح بتاريخ هؤلاء مدى حياتهم المهنية.

الهلباوي أول نقيب للمحامين منذ إنشاء نقابة المحامين ١٩١٢.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال