كلمات مروري يا هاجر..

 عزيزتي هاجر..

لم أخبرك بهذا قبل الآن، ولكنني كنت قد عيّنت اسمكِ وتاريخ ميلادكِ ككلمة مرور منذ وقت طويل في كل مكان احتجت فيه لذلك، إضافةً إلى بعض الرموز كتاريخ المرة الأولى التي عانقتكِ فيها، الأيام الهامة التي قمتُ فيها بأشياءٍ أو حدثت فيها أشياءٌ أحزنتكِ جداً، أغضبتكِ جداً، جعلتكِ سعيدة جداً، خيّبتكِ جداً، تلقّيت فيها منكِ هديةً أو فاجأتكِ بهديةٍ أو رسالة ما.. على الرغم من أنك كنتِ تعاتبيني باستمرار، لأنكِ تعتقدين أنني لا أهتم بما يحدث في حياتكِ -وأنا لا ألومكِ على هذا، لأنني لم أكن يوماً جيداً في إظهار مشاعري ولطالما عذّبني ذلك على نحو أشد قسوةً مما عذّب أولئك الذين أحببتهم حقاً. ولكنهم كانوا يعتقدون لفشلي هذا أنني بارد لا أحمل لهم من المشاعر ما يكفي ليجعلني أكثر استحقاقاً لبقائهم في حياتي من رحيلهم فتركوني وحيداً-، وأخيراً تاريخ وداعنا الأخير في كل مكان أُتيح لي فيه ذلك، كل مكانٍ بلا استثناء، صفحتي هذه مثلاً، الهاتف المحمول، الحاسوب الخاص في غرفتي، والآخر في عملي، في مكتبة الجامعة، بطاقة البنك، بريدي الإلكتروني وألبومات صورنا الخاصة.

وكانت تصل كلمة المرور أحياناً لثلاثين خانة وأكثر، فلا أظن أنني أعجز عن هذا بذاكرة حفظت فيها عن ظهر قلب معلقات بأكملها، كمعلقة "امرؤ القيس" وقصائد معقدة كقصائد "ابن الفارض" و"المتنبي" والكثير من قصائد "نِزار" و"درويش" و"لوركا" و"بودلير" ومعظم رسائل "كافكا" لـ"ميلينا" و"فيليس" ومقاطع وحوارات بأكملها مع أرقام الصفحات وأسماء الكتب الموجودة فيها لـ"دوستويفسكي" و"الماركيز دو ساد" و"تشيخوف" و"كامو" و"نيتشه" و"جورج أورويل" و"فيرجينيا وولف" ومذكّرات "دي بوفوار" و تواريخ لوحات "فان جوخ" و"إدفارت مونش" مع تواريخ ولادة وموت كل هؤلاء، وموضع الشامات في جسدكِ وشكل أصابعك وملمس يديكِ وعدد الشعرات في رموشكِ وتخميناً طول عنقك وذراعيكِ، وتحديداً هيكل صدركِ وأكتافكِ وشكل سرّتك ومحيط خصرك وامتداد ظهرك وساقيكِ.

أُذكّرك بهذا، لأنني أحببت أن أذكّركِ الآن، أُذكّركِ أنتِ تحديداً بالساعات التي كنا نقضيها معاً أتأمل جسدك، وأسرد عليكِ مما أحفظه وأخبركِ بإحساسي أنني لا أنتمي أبداً لهذا العالم وأنني ولدت متأخراً جداً وأُفصح لك عن خيبتي لعدم ولادتي في نفس المرحلة الزمنية مع هؤلاء الذين في رأسي.

أذكّركِ لربما تستطيعين أن تتخيلي قليلاً كم من الصعب كثيراً على إنسان مثلي، يفكّر بهذه الطريقة ويحمل في رأسه كل هذه التفاصيل أن ينسى وأن يجد نفسه وحيداً تماماً ويُهجر بهذه الطريقة ممن أحبّهم. فلا أظن أنني أحتكم على أي شيء جيد آخر سوى ذاكرتي رغم قناعتي أنها أكبر أسباب شقائي، ولكن كل إنسان يحبّ أن يكون مميزاً في شيء ما، هذه الطبيعة البشرية، وكنت أحب كيف كنتِ تجدينني مميزاً بهذا.

الآن وقد دأبتُ مِن أجل ذلك على تناول مضادات الإكتئاب والليثيوم لتثبيت المزاج حتى بعد منعهم لي من قِبل الطبيب بعد أن قرأت في نشرتهم مدى تأثيرهم على الذاكرة والتركيز، لأنني أردت أن أفقد نفسي، لأنني أساساً لا أجد لي أي كينونة خارج التفكير، الأدب، تأملاتي، الفن، القراءة والكتابة، كما أنني لا أملك أدنى حدود الصبر وفاشل إلى أبعد الحدود في كل أنماط الحياة الإجتماعية ولا أطيق التواجد مع الناس وحتى كل أشكال العمل لأن كل عمل يفرض علي أحد أنماطها.

مازلت حتى الآن أعاني عذابات قاسية رهيبة تمنعني حتى من ممارسة الحياة بشكل طبيعي كلما حضرتِ في دائرة وعيي ولعلّكِ نسيتيني الآن نسياناً تاماً ولكنني أحببت أن أذكّركِ بي وأن أؤكّد لك برغم كل تشتتي وارتباكي أن ما من إنسان في هذا العالم مهما كان نقياً صادقاً يستطيع أن يحبّك كما أحببتكِ، أن يمنحكِ لحظات كالتي منحتكِ إياها، أن يلمّ بكامل تفاصيلكِ. وأن يتقبّلك هكذا كما أنتِ تماماً بكل ما فيكِ كياناً كاملاً كما تقبّلتكِ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال