قصيدة المتنبي.. ملحمة الحب والفراق عندما هجر المتنبي بلاط سيف الدولة

استمر المتنبي في بلاط سيف الدولة قرابة العقد من الزمان، وقد كانا معًا آخر حصنٍ متمنعٍ على الروم، وكان صوت المتنبي يصدح في حلب فيشد عزائم قومه، ويثبط عزائم من سواهم، وظلّ التلاحم ما بين صوت المتنبي وسيوف الحمدانيين حتى دخل فيما بينهم الوشاة وأفسدوا عليهم قلوبهم، فهان المتنبي على سيف الدولة الذي استكان بأقوال الوشاة ولم يرغب عنهم، وأصبحت مكانة المتنبي مهددة، فتنازل عنها طوعًا، وقال قبل الرحيل قصيدة في حضرة سيف الدولة ومن معه، قصيدة عصماء مطلعها: "واحرّ قلباه ممن قلبه شبمُ".

— الشرح أسفل كل صورة.



"مالي أكتّم حبًا قد برى جسدي؟
وتدعي حب سيف الدولة الأممُ".

يبدأ المتنبي القصيدة بشكواه من سيف الدولة، وجوهر الشكوى هنا عتابُ محب، فيقول: إني أشكو حرارة قلبي وشدة وجدي ممن قلبه شبمُ، أي قلبه باردٌ في أحشائه، فإني ابتليت بحبه وهو خالٍ منها، فمالي أكتم حبّه فيزداد سقمي ونحولي وأنا أصدق صبابةً من غيري من الأمم، الذين يدعون حبّه تملقًا وكذبًا، ويقصد جلساء سيف الدولة.



"أعيذها نظراتٍ منك صادقةً،
أن تحسب الشحم في من شحمه ورمُ.

وما انتفاع أخي الدنيا بناظرهِ،
إذا استوت عندهُ الأنوارُ والظلمُ".

ما زال المتنبي يخاطب سيف الدولة فيقول: يا أعدل الناس في أحكامه مع كل الناس إلا معي، إن جورك أقرب لي من عدلك، ولكنني أشكوك إلى نفسك، فأنت الخصم والحكم. وإني أعيذ نظراتك الصادقة أن ترى الشيء على خلاف الحقيقة، فتحسب الشحم ورمًا، فجعل الشحم لنفسه والورم لبقية الشعراء. وإلا فما انتفاعك ببصرك وقد صرت كمن استوت عنده الصحة والسقم، والأنوار والظلم؟



وقد صدق أبو الطيب، فمن منا إلى اليوم لم يستأنس بأشعاره ويُطرب على وقع أبياته، وقد ملأ الدنيا وصرف الناس عن غيره من الشعراء، وحسبه صدقًا أن أشعاره سرت مسرى الأمثال بين العرب في المشرق والمغرب.



ينتقل المتنبي هنا إلى وصف شجاعته في ساحات القتال فيقول: ربّ سيف رقيق الشفرتين سرتُ به بين الجيشين العظيمين حتى قاتلت به، والموت يموج من حولي ويضطرب.



فالخيل تعرفني لتقدمي في فروستها، والليل يعرفني لسراي فيه، والبيداء تعرفني بمداومتي لقطعها، واستسهالي لأمرها، والسيف يعرفني لضربي، والرمح لطعني به، والقراطيس شاهدة، لإحاطتي بمعرفة ما تتضمنه، والقلم عالم لإبداعي فيما يقيده.



القور: جمع قارة، وهي الأرض ذات الحجارة السوداء.
الأكم : الجبل الصغير.

يريد أن يقول أنه بدويّ، يقطع الصحاري ويصاحب الوحوش حتى تتعجب منه القور والأكم، وهذا ضرب من ضروب الشجاعة.




"ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ،
لو أن أمركم من أمرنا أممُ.

إن كان سركم ما قال حاسدنا،
فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ".

يعود المتنبي ليخاطب سيف الدولة، وهذه المرة عبر التعريض به، فيقول: يا من يشتد علينا فراقهم، إن كل شيء نجده بعدكم عدم، وقد كنت حريًا بإكرامكم لو أحببتموني كما أحببتكم. فإذا سرّكم قول الحسّاد، فإنه جرحٌ لا أتألم به، طالما فيه رضاكم.


"ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي،
أنا الثريا وذان الشيب والهرمُ".


ثم يقول مشيرًا إلى سيف الدولة ومعنفًا له في إصغائه إلى الوشاة: لا تزالون تطلبون عيبًا فيّ، فيعجزكم عيبي، أي لا تقدرون عليه، وهذا الفعل لا يرضى الله به، ولا يليق بالكرم. فإني بعيدٌ عن العيب والنقيصة، كبعد الثريا من الشيب والكبر. فكما لا يلحقها الشيب والهرم، فأنا كذلك لا يلحقني العيب والنقصان.



"إذا ترحّلت عن قومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون همُ".

وهنا أظهر المتنبي عزمه على الرحيل ومفارقة سيف الدولة، وإن كان يعزّ عليه ذلك، إلا أنه أصبح غريبًا في مكانٍ لا صديق فيه. وإن شرّ ما يكسبه الإنسان ما يلحق به العار، كما لحق بسيف الدولة عندما آثر حساده عليه. وغادر المتنبي سيف الدولة ميممًا مصر، وسقطت حلب في أيدي الروم، ولم يبقَ للمتنبي أطلالٌ حتى يبكي عليها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال